ركب الشاب سيارة تاكسي في القاهرة ، وطلب من السائق أن يوصله إلى وسط البلد ، التفت السائق له مبتسما ، وعزمَ عليه بعلبة عصير مثلجة ، وسرعان ما لضمَ الاثنان في حوار ، وعرف السائق كثيرا من المعلومات عن الشاب ؛ حامل بكارليوس التجارة ، وأنه يبحث عن وظيفة محترمة .
فقال السائق غامزا : ” طلبك عندي ، ولا تحمل أي هم ، أنا أعرف سِكّة(طريق) توصلك لمرادك ، وتتعيّن في بنك حكومي ، وليس بنك قطاع خاص ، يقفل بعد سنتين ، يعني وظيفة مضمونة مئة في المئة ” .
لم يصدق الشاب ، وتشكك في الرواية ، ولكن ابتسامة السائق جذبته وهو يقول : – المياه تكذّب الغطاس، ولن تدفع المعلوم إلا بعد استلام الوظيفة والتعيين .
استفسر الشاب عن السّكة ، فضحك السائق ، وأقسم له أن زوجته حاملة بكارليوس الخدمة الاجتماعية تعينت في محكمة الجيزة الابتدائية موظفة براتب ثلاثة آلاف جنيه ، وأن الموضوع ببساطة ، أن هناك ” واسطة ” تدفع للقيادات الكبيرة والمستشارين في هدوء ويتم التعيين ضمن مسابقة لا يسمع عنها أحد ، بالرغم من نشرها رسميا .
سكت السائق ، فقد وصل إلى وسط البلد ، حيث ارتكن بسيارته جانبا ، وعبث في هاتفه النقال ، وأعطى الشاب رقم الوسيط، وأرقام لأناس آخرين ، تم تعيينهم عن طريقه ، لكي يسألهم ويتأكد ، وأخبره بكلمة السر وهي ” الدرويش ” ، لأن الوسيط فعلا من الناس الطيبين ، الذي يعينون الشباب الطموح .
لم يقتنع الشاب ، وإن كان قد قاوم شكوكه ، فاتصل بالآخرين أولا ، قبل أن يتصل بالوسيط ، ذاكرا كلمة المرور ” الدرويش ” ، وكلهم أقسموا عن تعيينهم في وظائف مختلفة في الجهاز الإداري في الدولة عن طريق هذا الوسيط .
بالطبع تشككت أسرة الشاب وتحمست أيضا ، قالوا : لماذا لا نجرب ؟ لن نخسر شيئا . فاتصل الشاب بالوسيط ، الذي رد عليه بصوت هادئ ورزين، منكرا نفسه تماما ، بالرغم من كلمة السر ، وجدية الشاب في طلبه ، إلا أن الوسيط ضحك كثيرا، وقال له : لقد خدعوك يا عزيزي . وأغلق الهاتف .
صُدِمَ الشاب ، وعرف أن الأمر كان مؤامرة غبية ، فحمد الله كثيرا وكذلك أسرته فكل ما تكلفه اتصالات متعددة لا أكثر . في الليل ، رنّ هاتفه ، وكان المتحدث هو الوسيط ، الذي طمأنه ، بأنه فعل ذلك للاستيثاق لا أكثر . ثم طلب منه معلومات مفصلة عن مؤهلاته ، ووعده بالوظيفة خلال شهور قليلة ، وكان العربون المطلوب مبلغا بسيطا ، وهو ما طمأن الشاب ، أما المبلغ المطلوب فسيكون بعد استلام قرار التعيين الرسمي ، وهو ربع مليون جنيه .
التقى الشاب بالوسيط في مقهى فخم ، ليتفاجأ بشخص شديد الأناقة ، يركب سيارة حديثة وبيده السبحة ( لأنه درويش ) ، حيث تحدث الوسيط إلى الشاب ووالده بكل ثقة ، وبمعلومات مفصلة عن اتصالاته مع شخصيات عليا ، تكرر اللقاء مرتين ليتم الاتفاق النهائي والحصول على الأوراق المطلوبة والعربون . وبالفعل جاءت اتصالات عديدة بالشاب من بنك حكومي كبير ، تخبره بأن اسمه مدرج ضمن قائمة التعيينات ، وعليه الاستعداد لاستلام وظيفته خلال أسبوع ، قد تم إرسال قرار التعيين بالفعل إلى منزل الأسرة السعيدة ، وأخبره أيضا إذا أراد مراجعة البنك ، فليسأل عن موظف بعينه ، أعطوه اسمه .
وهو ما فعله الشاب ، وذهب مع والده ، فاستقبله الموظف المشغول كثيرا بأوراق على مكتبه ، وبجهاز حاسوبه ، وهنّأه وبارك له ، وأخبره أن تعيينهسيكون في بنك “كذا ” في ضاحية نائية ، بعيدا عن الأعين ، ويمكن أن ينقل بعد عام أو عامين .
وسرعان ، ما اتصل الوسيط به ، وطلب منه إيداع المبلغ المتفق عليه ، وإلا سيلغي القرار ، وهو قادر على ذلك . فاضطر الوالد لإيداع المبلغ في رقمالحساب المرسل على هاتف الابن .
ويمكنك عزيزي القارئ أن تتوقع النهاية ، وإن شئت سأخبرك عنها .
فقد ذهب الابن ليتسلم الوظيفة ، فلم يجد فرعا ولا مبنى ولا أي بنك في الضاحية المذكورة ، وعندما عاد للبنك الرئيسي ، أنكر الموظفون أي معرفة لهم بالشخص الذي قابله ، أما الحساب المودَع فيه ، فقد عرف أنه أُلغِيَ في اليوم نفسه ، وبالطبع كان مفتوحا ببطاقات مزورة .
******
هذا نموذج عزيزي القارئ لما يسمى بـ ” تجار الهواء ” ، والمعنى بسيط واضح ، فهم يتاجرون بالهواء بالفعل ، عن طريق الكلام والاتصالات والوعود ، وتكلفتها بسيطة في مقابل العائد المتوقع من عملية النصب الكبرى ، والتي ستنطلي حتما على البعض ، فهي كلها مهارات في الإقناع ، وقدرة على إحكام الإيهام .
بالطبع فإن ” تجار الهواء ” لا ينتمون إلى الطبقة المخملية ولا إلى ” لصوص 7 Stars “، فهؤلاء مختصون بالمليارات ، أما تجار الهواء فهم الطفيليون محترفو النصب على الطبقة الوسطى . وقد عرف سائق التاكسي من الشاب أن والده أحد العائدين بعد غربة طويلة في دولة خليجية ، فاطمئن قلبه ، ومضى في تجارته بالكلام المنمق، والابتسامة الصافية ، واليمين الغموس ، وبالطبع نال بقشيشا سخيا من الشاب .
******
في مشهد من مسلسل ” ليالي الحلمية ” ، جاء ناجي السماحي وهو أحد أقارب “علي البدري ” ابن سليم باشا البدري ، والذي تاجر في أموال والده ، حتى أسس امبراطورية اقتصادية عملاقة، وسلك في تصعيدها طرقا مشروعة وغير مشروعة . استغاث ” ناجي ” بــ ” علي “، أن ينقذ قريبا لهما ، وقد كتب على نفسه شيكات بمبالغ ضخمة لأحد التجار كضمانة لخدمة فقط . وقد قدمها التاجر في صبيحة هذا اليوم إلى النيابة . فتساءل ” علي البدري ” عن اسم التاجر ، وهو يعلم يقينا براءة القريب المسكين ، وأنه ولا يملك حسابات بنكية ( ولا دياولو ) ، فأخبره ” ناجي ” عن اسم التاجر ، فابتسم ” علي ” ، وقال : إنه من تجار الهواء . فتساءل ” ناجي ” عن دلالة هذا الاسم. فقال علي : أبدا ، هذا يخلّص المعاملات بالتلفونات ، ويقدم الرشاوى نيابة عنا ” .
أي لا يظهر رجل الأعمال الأصلي في الصورة والعمولات ، ولا يذكر اسمه في الاتهام إن تم ؛ فتاجر الهواء يجيد الطبخ ، ولا يترك وراءه إلا الهواء .
في المشهد التالي في المسلسل ، كان تاجر الهواء جالسا في كباريه ، وقد طيّر على الراقصات آلاف الجنيهات ، ولا تعجب ، فهي جاءت من الهواء ، وتلقى في الهواء . اقترب منه أحد تابعيه ، وأخبره أن ” علي بك البدري ” ينتظره في الخارج، لم يصدق التاجر ، وطار من مكانه ، فعلي البدري شخصية كبرى في عالم البيزنس. وصل التاجر لسيارة المرسيدس الفخمة ، ففتح له علي البدري النافذة ، وهم يتطلع بتعالٍ إلى التاجر الذي يبالغ في المديح ، ويدعوه للدخول لقضاء سهرة حلوة ، ويهاجم تجار الهواء الآخرين الذين يستعين بهم البدري .
لم يعلّق البدري ، وإنما أمره مباشرة بعبارات قصيرة : ” تعال غدا لنتفق على تخليص صفقات في ميناء الإسكندرية ، في مقابل سحب شيكات ( الهفق ) من النيابة ” . تعجب التاجر ، وتساءل عن العلاقة بين هذه وتلك .
أدار علي البدري محرك سيارته ، وقال بتكبر وتجهّم :
-أنت ابن سوق يا معلم ، وتعرف أن واحدة بواحدة . وقد تم ما أراد في اليوم التالي.
******
عزيزي القارئ ، ليس الهدف من هذا المقال تحذيرك من تجار الهواء ، فلن يتعاملوا معك ، مادمت فقيرا ، إنهم طفيليون يعملون على هامش الأغنياء ، أو يلعبون على ذوي المدخرات من الطبقة الوسطى ، التي تآكلت كثيرا الآن .
وإنما الهدف أن تدرك أن الاحتيال نظام مجتمعي ، يتقاسم كل محتال نصيبه من خارطة الثروات ، حتى لو كانت قسمته التجارة في الهواء ، فعليه أن يرضى بالمساحة التي أُجْبر على اللعب فيها ، وإن تطلع لما هو أكبر –وكان طموحا – فليثق تماما – وأنت أيضا معه – أن الهواء سيكون عقابه ، مثلما كان تجارة له . وهذا يتم بمنتهى البساطة ، بأن يتم حرمانه من شبكات النصب التي أقامها ، فإن أظهر تمرّدًا ، فاعرف تماما أن تهمًا وتحقيقات وسجنا ، ستأتيه – وبالهواء أيضا – عبر أوامر تلقى في الهواتف لا أكثر .
ولعلك تذكر نهاية فيلم ” اللعب مع الكبار ” لعادل إمام ، عندما كشف الكبار لعبة عادل وصديقه ” محمود الجندي ” ، مهندس الاتصالات الذي كان يتجسس على هواتف الكبار ، ويعرف ما يدبرونه . وسرعان ما سمعنا – نحن المشاهدين ولم نرَ- الأوامر التي تصب في الهواتف ، ومن ثم تم اغتيال المهندس .
******
الغريب في الأمر ، أن مصطلح ” تجّار الهواء ” خرج من المجتمع المصري، وتناسب كثيرا مع ثقافة ” الفهلوة والحداقة ” التي يدّعيها بعض متحذلقي الدهاء والنصاحة . هؤلاء الجالسون على المقاهي أو الواقفون على النواصي وهم يتفاخرون على الشباب الساذج قائلين : ” إحنا اللي عبّينا الهوا في أزايز ” . أي بعنا الهواء في زجاجات . وهي كناية – طبعا – عن قمة النصب والاحتيال .
إلا أن الطريف في الحكاية ، ما حملته لنا الأخبار بأن هناك علبا محملة بالهواء يمكن الحصول عليها في مصر أيضا ، وتحمل اسم “Fresh Icelandic Mountain Air” أي هواء أيسلندي جبلي منعش ، وهي من إحدى شركات بيع المنتجات ” الأيسلندية ” ، وقد عرضته عبر مواقع بيعمنتجاتها العالمية، وتتيح شحنه إلى معظم دول العالم بما فيها مصر ، مع خدمة ” Delivery ” أينما كنت . ومن أجل جذب المشترين قالت الشركة في دعايتها :
” بدلا من السفر ؛ جرّبْ هواء أيسلندا النظيف والطبيعي بدلا من هواءمدينتك الملوث ” . طبعا هؤلاء تجار هواء بالقول والفعل .
******
أود ختاما أن أذكّرك بكلمات أغنية مسلسل ليالي الحلمية ، مع تحوير بسيط فيها :
ومنين بييجي الشجن من اختلاف الزمن
ومنين بييجي السواد من الطمع والعناد
ومنين بييـــجي الهوا من اقتناص الهوا
تعيش في تفاصيل الحماية تتفاعل معها بسرعة متناغمة لتصل للهدف من كل حدث فيها بطريقة سلسلة دكتور أبدعت كعادتك بارك الله في علمك وفكرك.